الملاحظة ذاتها نستنتجها من مفردات أخر تدلنا على أن حرف J= خ العربي، المميّز للغة القشتالية كونه حرفاً مشتقاً من الحروف اللاتينية: ly، أو Cl أو Gl) لم يكن معروفاً في إسبانية المستعربة. فالعشبة المسمّاة في القشتالية Cerraja= حُلبة، كان يدعوها المستعربون بـ Xarralla أو Xarralya، كما يشهد على ذلك مؤلفون عرب من مناطق شتّى، ومنهم ابن البيطار الملقي، وابن بكلارش السرقسطي المذكوران سابقاً، وابن الجزّار التونسي. وما كان عرب غرناطة يسمّون هذه النبتة سوى Xarràyla. أمّا الحيوان المسمّى بالقشتالية Conejo= أرنب، فكان يلفظه المستعربون Conelyo، أو Conelya كما يقول أبو الوليد القرطبي، وابن بكلارش السرقسطي، وكانت الكلمة تجري أيضاً هكذا Conilya على أفواه المسلمين أنفسهم الذين كانوا يعيشون في القرن 13 في مملكة بَلنْسية. وإذا كان القشتاليون الذين استردّوا مدينة طليطلة يلفظون حرف J= خ في كلمات من أمثال Afijado= سابقة، لاحقة، ضمير متصل، Meaja= ضرب من العملة، Viejo= عجوز، قديم، فإن مستعربي تلك المدينة ظلوا على الرغم من معايشتهم أولئك، يلفظونها كما كان يلفظها أجدادهم Enfilyat، Medalya، Velyo. باختصار، نرى من تلك الأمثلة أن لغة المستعربين كانت تختلف عن القشتالية في استعمال حرف J = خ في هذه الكلمات، بل كانت تستعمل LI بالتطابق وسائر لغات الرومانس الأخر كالبرتغالية والليونية والأراغونية والقطالونية خلافاً للقشتالية.
والقشتالية تختلف أيضاً عن سائر لغات الرومانس الأخرى بوجود حرف
Ch= آتش) فيها، وهو مطابق للحروف اللاتينية Ct أو Lt. وهكذا بينا يُقال في البرتغالية والليونية الغربية والأراغونية: Feito، Leito، Noite وفي القطالونية Fet، Llet، Nit موافقة في الجوهر الفرنسيةَ والإيطالية، الخ، فإن القشتالية ابتكرت حرفاً جديداً قائلةً Hecho= حادثة، واقع...، Leche= لبن، Noche=ليل. وهذا الحرف لم يكن له وجود بين المستعربين كما يُستدل على ذلك من الاسم Lahtaruela= حُلّب، الذي سمعه ابن بكلارش ينطقون به في القرن الحادي عشر للدلالة على عشبة ذات عصارة لبنيّة: أو Lahtaira ، كما سمعها منهم القرطبي ابن جلجل في القرن العاشر للدلالة على نبات الهيشور. نضيف إلى ذلك أن عرب قرطبة كانوا أخذوا عن المستعربين مفردة Nohte بدلاً من Noche، مفردة ضمّنها ابن قزمان قصائده العربية.
هذه الملامح وأخر مشابهة لها مما استطعنا جمعه يفصح لنا عن نتيجة هامة، هي أن لغة الرومانس المحكية في الأندلس وفي سرقسطة، أو في طليطلة كانت أشبه بلغات شبه الجزيرة الأخر منها بالقشتالية.
وربما كانت أشبه شيء باللغة البرتغالية والغليسية والليونية الغربية في الحفاظ بعناد على إدغام حرفي العلة Ei الذي تخلّصت منه القشتالية والقطالونية سريعاً. وكان ابن قزمان القرطبي يكتب في القرن الثاني عشر كلمات مثل Pandàir بدلاً من Pandero= دُفّ، و Fazera= وجه، و Yanàir أو Janeiro= كانون الثاني. ولدينا أديب من بلنسية توفي قبيل استيلاء خايمه الغازي على هذه المدينة، كان يلقب بـ Cabatàir كقولنا على الطريقة الغليسية Zpateiro= حذّاء، وهذا اللفظ كان شائعاً في المصطلحات الإسبانية الدخيلة على العربية في سواحل ليبانته شرقي إسبانية) حيث كانت تلفظ في القرن الثالث عشر كلمات مثل Febràir= شباط، Pandair، Xaira و Xairon للدلالة على ما يسمى في البرتغالية Seira، وفي القشتالية Sero أو Seron= قفّة، قفير) و Xemtàir بدلاً من Sendero = درب، Ballextàira بدلاً من Ballestera= فجوة لإطلاق السهام، أسماء ما تزال باقية حتى يومنا هذا في عربيّة المغرب والجزائر.
وقد ظلّ المستعربون الطليطليون في القرن الثالث عشر ذاته وسط القشتاليين الفاتحين يلفظون Vaiga رغبة عن Vega و Xemtair و Febràir كالعرب في ليبانته. وأخيراً، لمّا سقطت غرناطة أواخر القرن الخامس عشر ظل المستعربون الذين خضعوا حديثاً للملكين الكاثوليكيين يلفظون Escalàira بدلاً من Escalera = درج، و Calcetàir= بائع جوارب، Capatàir= إسكافي الخ.. هي صيغ أخذوها من لغة الرومانس السارية منذ القديم في تلك المملكة)، وحافظوا بهذه الطريقة على مقدار كبير من أسماء الأمكنة؛ ولسوف يخيّل إليكم إذا نظرتم إليها، أن الغزاة القشتاليين استعادوا منطقة جيليقية أو غليسية) قبل أن تتعرّب: في وثيقة تشييد أبرشية غرناطة الجديدة عام 1500، وفي أماكن توزّع الموريسكيين(7) حوالي 1574 م تجدون أسماء قرى مثل Capileira، Pamponeira، Yunqueira، Lanteira أسماء في معظمها ما تزال موجودة حتى اليوم في هذه الصيغة الغريبة في مناطق غرناطة وملقة والمرية. ولم يجد القشتاليون مناصاً من الخضوع إلى طريقة نطق البلد الرومانية من غير أن يستطيعوا تغييرها إلا في حالات استثنائية. فقد استطاعوا مثلاً أن يصحّحوا اسم كولوميرا البلدة الحدودية التي كان يسميها ابن الخطيب وزير ملوك غرناطة المشهور: كولومبائيرا Colombàira.
النتيجة: بالنظر إلى هذه الشواهد التي سقناها على عجل، أحسب أن لغة المستعربين سواء في سرقسطة وبلنسية أم في قرطبة وغرناطة أو طليطلة، تتمتع بخواص معينة تميزها عن اللغة التي نشأت في قشتالة بعد ذلك؛ وما كان لها أن تكون استمراراً للخصائص الخاصة باللغة المستعملة في مملكة الفيزيقوط بعامة.
إذاً، كانت اللغة الأكثر شيوعاً في مملكة الفيزيقوط تمتلك سماتٍ تميزها على شكل رئيس عن اللغة الإسبانية المعاصرة؛ وعلى العكس من ذلك، كانت تشترك في خصائص هي والجيليقية والليونية والأراغونية والقطالونية خلافاً للغة المركز الأدبية. وبالإجمال، أحسب لغة طليطلة التي كان يتكلمها النبلاء ورجال بلاط الملك رودريغو كانت أشبه بالجيليقية والأستريانية أو الليونية الغربية منها بالقشتالية. فما أعمق اضطراب العروق والحكام الذين غيروا وجه المدينة الإمبراطورية قبل أن تصبح حرم كاتدرائياتها وسوقها ومدابغها مركز القشتالية وحسن الكلام بها بين طبقات المجتمع كلها كما كان يحسب معاصرو ثربانتس!
ينتج أخيراً عن هذا الرأي الذي عرضناه منذ قليل، نظرية مختصرة عن الحالة ما قبل التاريخية للغات الرومانسية في شبه الجزيرة الأيبرية. وكانت هذه اللغات حتى القرن العاشر موزّعة على شكل مختلف عمّا أمست عليه بعد ذلك. ويظهر على الخارطة اللغوية في إسبانية بدءاً من القرن الثامن قطبا لهجتين، أي البرتغالية والليونية في الغرب، والقطالونية والأراغونية في الشرق، تفصل بينهما فصلاً كاملاً القشتالية التي تمتدّ بين هذه اللهجة وبين تلك في منطقة مركزية آخذة بالتوسّع على شكل ملحوظ كلّما تقدّمت جهة الجنوب.
وينبغي لنا أن نتمثل الخارطة اللغوية بشكل مغاير: ذلك ليس فقط أن هذين القطبين أكثر اقتراباً من بعضهما جهة الشمال، وإنما هما يتّحدان في الوسط والجنوب من خلال لغة مناطق طليطلة والأندلس الشبيهة بلغة القطبين. هذا يعني أن مركز الحكم وكذلك المقاطعات المختلفة من مملكة الفيزيقوط كانت تتكلم لغة موحدة إلى حدّ كبير في الخصائص المذكورة وفي خصائص أخر غيرها، أمر يبيّن لنا التشابه الساطع الذي نجده اليوم بين البرتغالية والليونية من جهة، وبين القطالونية والأراغونية من جهة أخرى، خلافاً للقشتالية. لكن، أخذ ينشأ على شكل كامن انشقاق لغوي جذري، في ركن من كانْتبْريا شمالي مملكة الفيزيقوط، وهي أرض حصينة منيعة، تحوّل فيما بعد إلى انشقاق سياسي أعلنه وعزّزه متمردون مشهورون من أمثال الكونت الكبير فِرْنان غونثالث. ثم ما فتئ بعد ذلك توسّعُ هذه الرقعة الصغيرة من إسبانية عسكرياً واجتماعياً منذ أيام السِيْد) والقرنين الحادي عشر والثاني عشر والدفعةُ التي عرفت قشتالة أن تهبها حربَ الاسترداد والأدب، يشيعان اللهجة القشتالية المغمورة من قبل فاختلطت على شكل حميم بالليونية والأراغونية متوسّعة باتجاه الجنوب الذي أزاحت عنه لغة المستعربين المُفقرة. وهكذا قُطعت الرابطة التي كانت قائمة ما بين القطبين الشرقي والغربي. لهذا السبب تظهر اليوم البرتغالية والليونية معزولتين عزلة كاملة عن القطالونية والأراغونية على الرغم من التشابه القوي فيما بين الفئتين. وهي لهجات أطراف كانت من قبل تلتقي عبر سلسلة من اللهجات الوسيطة التي كان يجري الكلام بها في طليطلة والأندلس.
(1) المستعربون: تطلق على الإسبان الذين ظلوا تحت الحكم العربي في الأندلس محافظين على دينهم ولغتهم الأصلية إضافة إلى اكتسابهم اللغة العربية.
(2) بيدال: أهم الباحثين الإسبان خلال القرن الماضي في فيلولوجيا اللغة الإسبانية ونشأتها وتطورها، وفي تاريخ الأدب الإسباني في العصر الوسيط وعصر النهضة. وله بحوث في التاريخ العام. وكان يعرف لغات عدة حديثة وقديمة. وقد أرسى أسس مدرسة في علوم اللغة هي الأهم في إسبانية. له كتب تشكل وحدها مكتبة كاملة، نذكر منها: دراسات أدبية- الشعر العربي والشعر الأوروبي- اللغة الإسبانية في أزمنتها الأولى- إسبانية حلقة بين الإسلام والمسيحية- بين ثربانتس ولوبه- مجموعة جديدة من الرومانثيرو القديم- لغة كريستوفر كولومبوس- مختارات من النثر الإسباني- فكرة كارلوس V الإمبراطورية... الخ.
* بينما الأستاذ زهير حميدان يجعل وفاته حوالي 1106م أعلام الحضارة العربية والإسلامية وزارة الثقافة - سورية- المجلد 5)
(3) يصح هذا على القرون الثلاثة الأولى بعد الفتح العربي. أما بعد القرن الحادي عشر فقد عثر على أغانٍ مكتوبة بلغة هي خليط من الإسبانية والعربية.
(4) لعله يقصد بعدم الوضوح الالتباس الذي يحصل لمتعلمي العربية من الخلط بين الضمة والفتحة والكسرة التي يسمونها نصف حرف علة وبين حروف العلة الثلاثة.
(5) لغات الرومانس: هي المشتقة من اللاتينية الشعبية كالفرنسية والإيطالية والرومانية، والقشتالية، والبرتغالية... الخ.
(6) القشتالية: هو الاسم الصحيح لما نسميه الإسبانية توسّعاً. في شبه الجزيرة الإيبرية خمس لغات أخر، أربع منها من أصل لاتيني.
(7) هم العرب الذين ظلوا تحت الحكم الإسباني بعد سقوط غرناطة 1492م -ثم طردوا عام 1609م. كانوا يتكلمون القشتالية مكتوبة بحرف عربي.